المقالات

قصة قصيرة رمزية في مفاهيم الموارد البشرية (توصيف – وصف الوظيفي - مواصفات)

Image placeholder

د. عبدالملك محمد ملهي

الرئيس التنفيذي لمؤسسة رواد عالم الإدارة للاستشارات الإدارية والتدريب

قصة قصيرة رمزية في مفاهيم الموارد البشرية (توصيف – وصف الوظيفي - مواصفات)

بقلم: د. عبد الملك محمد ملهي – استشاري الموارد البشرية والتنظيم المؤسسي

22-08-2025

في إدارة الموارد البشرية بمستشفى "شيفاكو"، كان يتردد صدى نقاش مهني بين اثنين من أبرز موظفيها أمام وظيفة مستحدثة ومستقبلية: منسق الرعاية الروبوتية الافتراضية.

الأول هو "توصيف"، خبير تحليل الوظائف الذي عركته السنين، هادئ وعميق كجذور شجرة عتيقة. والثانية هي "مواصفات"، أخصائية استقطاب المواهب الجديدة، متقدة وحيوية كشعلة لا تهدأ.

بادرت "مواصفات" بالحديث، وعيناها تبرقان بحماس الخبير الذي يستشرف السوق: "سيدي المدير، مع ندرة هذه الوظيفة، يجب أن نتحرك بسرعة. أقترح أن أبدأ فورًا في بناء ملف الكفاءات (Competency Profile) للمرشح المثالي ورسم صورته الذهنية. فالعثور على الموهبة المناسبة هو سباق مع الزمن!"

وقبل أن يبدأ "توصيف" في عرض منهجيته، أضافت "مواصفات" بحماس: "مهمتي هي الأهم استراتيجيًا، فجلب الشخص الموهوب هو ما سيصنع الفارق في نجاح هذا الدور الجديد!"

نظر إليهما المدير، الذي صقلته التجارب، نظرة فاحصة ومبتسمة. ثم قال بهدوء يقطعه حسم: "حماسك يا "مواصفات" هو وقود نجاحنا، ونهجك يا "توصيف" هو خريطتنا. لكن لا تنسيا المبدأ الأول: إنجازكما المميز سيبدأ بالتحليل الوظيفي (Job Analysis). هذه هي العملية الأم التي ستلد لنا توأم لا ينفصلان: التوصيف أولاً، ثم المواصفات ثانيًا. مهمتك الأولى يا "توصيف" هي قيادة هذا التحليل. وأنتِ يا "مواصفات"، ستكونين شريكته في الرحلة، تلاحظين وتطرحين الأسئلة، لتضمني أن مخرجاته تترجم بدقة إلى ما تحتاجينه. اذهبا الآن، وعندما تعودان بالنتيجة، ستعرفان سر هذا التناغم."

خرجت "مواصفات" من المكتب، وقد تحول حماسها إلى فضول. قالت لزميلها: "يبدو أن الحكمة تقتضي التمهل. أنا معك، لنتعلم معًا."

انطلق "توصيف" في مهمته، لا كموظف يؤدي واجبًا، بل كعالم أنثروبولوجيا يستكشف ثقافة جديدة. غاص في حوارات الأطباء لفهم الأثر الإكلينيكي، وأنصت لنبض عمل الممرضين ليعرف نقاط التكامل، وفكّ شفرات لغة التقنيين ليدرك الأبعاد التكنولوجية. لم يكن يدوّن المهام فحسب، بل كان يستنبط الكفاءات الجوهرية اللازمة للنجاح: مزيج من "الفطنة التكنولوجية"، و"حل المشكلات المعقدة"، وفن "التعاطف الرقمي".

أما "مواصفات"، فلم تكن تراقب من بعيد، بل كانت تشارك بذكاء. في إحدى المرات، رأته ينهي حوارًا عميقًا مع رئيس قسم الجراحة الروبوتية، فاقتربت منه بهدوء وسألت: "لاحظت أنك ركزت على قدرة الروبوت على التشخيص الذاتي للأعطال. من منظور المواصفات، هل هذا يعني أننا نحتاج مهندسًا بمهارات فنية، أم شخصًا يمتلك كفاءة إدارة الأزمات وتوجيه الفنيين عن بعد؟"

ابتسم "توصيف" وقال: "سؤال عبقري يا "مواصفات". هذا هو جوهر شراكتنا. أنا أرسم أبعاد "ماذا" و"لماذا" في العمل، وأنتِ بأسئلتكِ هذه تساعديننا معًا على بلورة الإجابة على سؤال: من القادر على أدائه."

هنا، وكأن نورًا أضاء عقل "مواصفات"، فهمست في نفسها قائله: "لقد فهمت! كنت سأبحث عن "مهارات" في السيرة الذاتية، بينما الوظيفة تحتاج إلى "كفاءات" وسلوكيات قد لا تظهر على الورق. كنت سأطلب "خبيرًا تقنيًا"، بينما الوظيفة قد تحتاج "مايسترو" ينسق بين البشر والآلة".

حين أنهى "توصيف" التحليل، لم يسلمها ورقة، بل عرض عليها مسودة "بطاقة التحليل الوظيفي" الكاملة. عملا معًا على صياغتها النهائية. هي أضافت عمقًا في قسم المواصفات بناءً على ملاحظاتها، وهو تأكد من أن كل مواصفة تطلبها ترتبط مباشرةً بمتطلب كشفه التحليل.

دخلا معًا على المدير، لا كمتنافسين، بل كشريكين قدّما عملاً متكاملاً.

بادرت "مواصفات" بالحديث، وفي صوتها نبرة جديدة تمزج بين الثقة والامتنان: "سيدي، لقد فهمت السر. لم يكن الأمر تفضيلاً، بل كان تكاملاً. التوصيف ليس مجرد خطوة أولى فحسب، بل هو الأساس الذي تُبنى عليه مواصفات شاغل الوظيفة ليكون لها معنى."

ابتسم المدير وقال: "وما هو الدرس الأعمق الذي تعلمته؟"

أجابت بثقة الخبيرة: "السر هو أن المواصفات الفعّالة ليست قائمة أمنيات، بل هي إجابة دقيقة ومباشرة على سؤال: ما هي متطلبات وكفاءات من سيشغل العمل الذي تم توصيفه؟"

أومأ المدير برأسه موافقًا، ثم أضاف اللمسة الأخيرة على درسه: "أحسنتِ. وتذكروا دائمًا، أن الخلط بين "الوصف" و"التوصيف" مجرد خلط لغوي بسيط وكلاهما بمعنى واحد. لكن الخلط بين مصطلح توصيف الوظيفة (Job Description) والذي يعني وصف العمل نفسه من حيث غرض ومهام ومسؤوليات ومخاطر وظروف الوظيفة وعلاقاتها، وبين مواصفات شاغل الوظيفة (Job Specification) والذي يعني مؤهلات وجدارات من سيشغل هذه الوظيفة، إنما هو خلط غير صحيح، وإن تقديم وضع مواصفات شاغل الوظيفة قبل توصيفها مثل تصميم دواءً قبل تشخيص المرض. قد نبتكر أفضل دواء في العالم، لنكتشف أن المريض يعاني من علة أخرى تمامًا. أهدرنا الموارد، وخاطرنا بالهدف الأسمى".

وختم المدير بكلمات نُقشت في ذاكرتهما إلى الأبد:

"مهمتكم معًا ليست مجرد ملء وظيفة، بل هي تصميم دور متكامل يخدم رؤية المؤسسة. ابدأوا دائمًا بتحليل الرحلة بدقة... وضعوا وصف أو توصيف العمل ثم عندها فقط، ستعرفون مواصفات الرحّالة الذي تحتاجونه ليقودها."