(مقال يستند إلى تجربة عملية شخصية تمتد لأكثر من ثلاثة عقود، وبيانات ميدانية حديثة، وحوارات مع خبراء يمنيين وعرب)
المقدمة: من صرخة شخصية إلى تشريح منهجي
في خضم نقاش حاد مع زملاء من إدارات مختلفة، كنت حينها أتقلد منصب مدير للموارد البشرية. استمعت إلى حديثهم الذي حمل نقدًا لاذعًا، اتهامات بالقسوة، والتركيز على العقوبات، وتجاهل الاحتياجات. حينها، لم أستطع كتمان تعجبي، وطرحت عليهم سؤالاً لم يكن مجرد استفسار، بل كان صرخةً من شخص يرى نفسه في هذا النقد:
"لماذا تكرهون إدارة الموارد البشرية؟"
كانت ردودهم متباينة، لكنها خُتمت بضحكة ساخرة وتجاهل، وانفض النقاش دون الخروج بشيء سوى بهذا السؤال الحائر الذي ظل يطعن صمتي لسنوات.
خرجت ذلك اليوم وأنا أجر أذيال الخيبة. ذهبت إلى مكتبي بحماسة لأكتب مقالاً يرد على هذا السؤال. كتبت السؤال وتوقفت؟ أحسست أن ما سأكتب سيكون مجرد رد فعل دفاعي شخصي، "مبررات" لن تصل إلى القلوب ولن تقنع أحد. يضاف إلى ذلك أن البلاد آنذاك كانت تمر بفترة صعبة أجواؤها مشحونة بالآلام والتوتر، ولم يكن هناك متسع للأخذ والرد أو لأي سجال فكري في ظل واقع قاسٍ يطحن الجميع. ومضت الأيام والسنون...
اليوم، بعد ما يزيد عن عقد من الزمن، وبينما كنت أقلب في أوراقي القديمة، وقعت عيناي على ورقة قديمة تحمل عنوانا فحسب، دققت فيها، قلت في نفسي لم هي هنا، وبمجرد التأمل في عنوانها.. تذكرت، فصحت إنها هي، إنها التي تحمل ذلك السئوال الذي ظل كل تلك السنين دون إجابة. عادت بي الذاكرة إلى تلك أصل تلك الواقعة وإلى ذلكم السؤال الذي لم يمت. لكن هذه المرة، وبعد تجارب كثيرة مررت بها، أدركت بعد تأمل وإعمال فكرٍ أنني طرحت السؤال الخطأ. فالسؤال الحقيقي الذي كان ينبغي طرحه آنذاك، ليس "لماذا؟"، بل "أين؟". أين تختبئ جذور تلك الكراهية؟ هل هي في فشلنا كـشركاء استراتيجيين؟ أم في جمودنا كـخبراء إداريين؟ أم في تقصيرنا كـنصراء للموظفين؟ أم في عجزنا كـوكلاء للتغيير؟ ... هذا هو الإطار الرباعي الذي وضعه ديف أولريش (1997)، والذي، ينبغي إن أردنا الإجابة على ذلك السؤال بإنصاف أن نجعله مشرطنا لتشريح هذه القضية.([1])
هنا قررت ألا تأتي الإجابة انفعالية شخصية، بل أن تُستخرج من ميدان البيانات الذي يفضح تناقضاتنا، ومن أصداء حواراتي مع خبراء في المنطقة، والتي أكدت لي في نهايتها أنها ليست قضيةً يمنية فحسب، بل همٌ عربي ( وربما دولي) مشترك.
لذلك، يهدف هذا المقال إلى تفكيك هذه الأزمة، مستعيناً بالإطار النظري المشار إليه آنفا، نموذج أولريش (Ulrich Model, 1997)، ومدعماً ببيانات مستخلصة من استطلاعات رأي أجريتها على وسائل التواصل الاجتماعي (مجموعات مهنية في الواتس آب، والفيسبوك، ولينكدن) تم تنفيذهما في يوليو 2025 على شريحتين متكاملتين:
تحليل الوضع الراهن (SWOT): تشخيص رباعي الأبعاد
وللإجابة على تلك الأسئلة الأربعة التي طرحنا ها في المقدمة والتي تستند إلى النموذج الرباعي لـ: أولريش، لا بد أولاً من إجراء تشخيص دقيق لبيئة العمل التي تتحرك فيها إدارة الموارد البشرية. فقبل أن نَصِفَ الدواء، يجب أن نفهم طبيعة الداء، ومدى قُوَّتُهُ، والظروف المحيطة به. لذلك، سنستخدم أداة التحليل الاستراتيجي المعروفة بمصفوفة (SWOT) لنرسم خريطة رباعية الأبعاد نحلل فيها كل الإجابات التي وردت في الاستطلاعات والردود والمناقشات التي وردتني من الخبراء والمتخصصين والممارسين في الموارد البشرية أولا ومن باقي القطاعات الأخرى كذلك خلال الفترة من 31 يوليو -4 أغسطس 2025م، مدعمة ببحوث ودراسات ومؤتمرات متخصصة للتوثيق، لنكتشف معا نقاط القوة والضعف الداخلية، والفرص والتهديدات الخارجية التي تشكل مجتمعةً ملامح هذه الأزمة.
|
نقاط القوة (Strengths)
|
نقاط الضعف (Weaknesses) |
العوامل الداخلية |
اعتراف 32.5% من خبراء الموارد البشرية بوجود ضعف في الكفاءة المهنية. |
1. ثقافة تنظيمية جامدة: حيث 44.7% من الخبراء والممارسين يؤكدون أن الثقافة السائدة لا تدعم الدور الاستراتيجي للموارد البشرية. |
تجارب رائدة تثبت أن التغيير ممكن حتى في البيئة الصعبة. |
2. غياب الدور الاستراتيجي: يفيد حوالي 75.4% من مديري ومختصي الموارد البشرية بأنهم يعملون في ظل قيود مباشرة من الإدارة العليا. |
|
وجود توجه من عدد من الشركات اليمنية والبنوك نحو التطوير المستمر لبنية الموارد البشرية والتأهيل وتحسين تجربة الموظف: - أمثلة واقعية: - دراسة أكاديمية أجريت في عام 2020 على شركات النفط والغاز العاملة في اليمن تؤكد العلاقة الإيجابية بين برامج التدريب المهني المستهدف وأداء الموظفين (150 مشاركاً من إجمالي 200 موظف)، مما يبرز أن الاستثمار الفعلي في تدريب وتنمية الموارد البشرية يمكن أن يعزز الكفاءة التنظيمية والنتائج المؤسسية. ([2]) - اعتمدت HSA نظام HR رقمي متقدم (SAP SuccessFactors) لدمج أكثر من 10,000 موظف في 50 شركة تشغيلية، ما أسهم في تقليص الأعمال الورقية بنسبة 90% وزيادة مشاركة الموظفين وشفافية البيانات والتطوير المهني. ([3]) |
أزمة هوية وانحياز: 68% من الموظفين يرون الموارد البشرية إما "أداة بيد الإدارة العليا" أو "أن سياساتها غير عادلة". (تآكل الثقة – تراجع الدور المؤسسي – انخفاض الولاء). |
|
|
الفرص (Opportunities)
|
التهديدات (Threats) |
العوامل الخارجية |
1.تطلعات الجيل الجديد: رغبة الموظفين الشباب في بيئة عمل محترمة وتجربة متكاملة. 2.أدوات الذكاء الاصطناعي والبرمجيات المجانية: توفر تقنيات الذكاء الاصطناعي الحديثة مثل Chat GPT، Notion AI، Zoho Recruit، Pymetrics، وSkills GPT فرصًا نوعية لأتمتة عمليات الموارد البشرية (الاستقطاب، كتابة الوصف الوظيفي، التقييم، التدريب، إدارة المعرفة...) وتحليل البيانات، وكلها متاحة بإصدارات مجانية أو منخفضة التكلفة، ويمكن تكييفها بسهولة لتناسب احتياجات الشركات في السوق اليمني. |
1. التحديات التي تواجهها الشركات العائلية: يشير "نادي الأعمال اليمني" إلى أن ما يفوق 95% من القطاع الخاص يدار كشركات عائلية. ([4]) حيث يؤكد ذلك نتائج دراسات بحثية: التي تأكد على ضعف الأنظمة الإدارية والقانونية في الشركات العائلية، وغياب الفصل بين الملكية والإدارة، يؤدي إلى تآكل دور الموارد البشرية كمؤسسة مستقلة محايدة، ويحوّلها إلى أداة بيد "المالك"، مما يخلق حالة من الشك والعداء لدى الموظفين تجاهها. ([5]) 2.هيمنة الشركات الصغيرة الضعيفة تنظيميًا: تشكّل الشركات الصغيرة والمتوسطة 97% من القطاع الخاص اليمني، وتوظّف أكثر من 648,000 عامل، إلا أن معظمها يفتقر للحوكمة، والهياكل التنظيمية، والنظم الإدارية الفاعلة، مما يُضعف بيئة العمل ويقيّد دور الموارد البشرية.([6]) يضاف إلى ذلك استمرار انتشار (عقلية المحل أو الدكان) لدى الكثير منها. |
3. إمكانية تعميم النجاح: نقل وتكييف الممارسات الإيجابية من النماذج الناجحة إلى مؤسسات أخرى. |
3. بيئة اقتصادية معادية: ضغوط اقتصادية هائلة (28.1% من الخبراء يرونها تحدياً رئيسياً). |
|
4. قفزات الذكاء الاصطناعي: توفر برامج الذكاء الاصطناعي بإمكانيات مادية معقولة، يمكنها دعم سرعة النمو الإداري في الشركات. |
4. جمود الإطار التشريعي: تقادم قوانين العمل وعدم تحديثها (11.4% من الخبراء يواجهون هذا التحدي). |
|
بيانات مأخوذة من استطلاع موجه لشريحتين (المختصين والموظفين) ، وردود عدد من الخبراء المختصين بـ: HR يمنيين وعرب مع توثيق من دراسات ومواقع محلية موثوقة.
|