في أعماق الوجود الإنساني حيث تتلاقى النفخة الإلهية مع التربة الأرضية، كما قال سبحانه {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)} [الحجر : 28-29]، خُلق هذا الإنسان ليكون خليفة الله في أرضه، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ ...َ} الآية: [البقرة : 30] ومنحه من الأدوات، ما تجعله قادراً على القيام بهذا الدور العظيم، ومن تلك الأدوات هي القدرة على التفكير.
فما هو التفكير؟ وهل الآلة بذكائها الاصطناعي تفكر؟
هذا المقال يجيب عن هذا السؤال.
التفكير ليس مجرد عملية حسابية جافة، بل هو نفخة من روح الله تسري في جسد هذا الانسان. إنه حركة القلب والعقل معًا، رحلة تبدأ من شاطئ "المعلوم" الآمن، لتبحر في محيط "المجهول" بحثًا عن لآلئ الحقيقة. وهذا هو تعريف التفكير، استخدام المعلوم للوصول إلى المجهول. إنه ذلك الجهد الكبير الذي يبذله الإنسان ليحلل، ويركب، ويقارن، لا كآلة صماء، بل ككائن حي يمتزج فيه المنطق بالحدس، والبرهان بالشعور.
لماذا خُصَّ الإنسان دون غيره بهذه القدرة العجيبة؟
لأن التفكير هو ثمرة الاختيار الحر، فما لم تكن هناك حرية للاختيار، لن يكون هناك تفكير، ثم إن هذا لا يعني فقط الاختيار بين الحسن والأحسن، أو الفاضل والأفضل، بل حرية الاختيار بين المتناقضات من خير وشر، وحق وباطل، وصواب وخطأ. وهذا ما أكده القرآن الكريم في أكثر من موضع، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الانسان : 3]، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد : 10].
إن الله، جل في علاه، لم يخلقنا عبيدًا للغرائز أو مسيرين بالخوارزميات الكونية، بل منحنا إرادة حرة لنختار بين دروب النور ودروب الظلام، بين بساتين الخير وصحارى الشر، بين سبيل الحق، ومتاهات الباطل، وهذا الاختيار لا يكون إلا بتفكير عميق، وتأمل في العواقب، ومسؤولية عن القرار.
أما الذكاء الاصطناعي، هذا الإنجاز البشري المذهل، فهو ليس أكثر من ظلٍ باهتٍ للحقيقة. إنه عملاقٌ رقميٌّ هائل، قادر على التهام جبال من البيانات في طرفة عين، وتحليلها بدقة تفوق الخيال. لكنه، في جوهره، عبدٌ للخوارزمية، سجينٌ للشيفرة التي كُتب بها. إنه يرى الأرقام ولا يدرك المعاني، ويحصي الكلمات ولا يتذوق الشعر، ويحلل الأفعال ولا يفقه النوايا. إنه يحاكي الذكاء كما تحاكي المرآة وجه صاحبها، دون أن تمتلك شيئًا من روحه أو وعيه أو أحلامه.
وصف ما تقوم به الآلة بأنه "تفكير" هو جناية في حق الإنسان والآلة معًا. هو تجريد للإنسان من أقدس ما يملك، وإلباس للآلة ثوبًا ليس لها. إنه مزلق خطير يقودنا إلى الهاوية، حيث نُعلي من شأن الصنم المصنوع، ونحطُّ من قدر الإنسان الصانع.
يقول أحد المفسرين مؤكداً هذا المعنى وهو يفسر قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا...ٌ} الآية: [البقرة : 29]
إن كلمة (لكم) هنا ذات مدلول عميق وذات إيحاء كذلك عميق. إنها قاطعة في أن الله خلق هذا الإنسان لأمر عظيم. خلقه ليكون مستخلفا في الأرض، مالكا لما فيها، فاعلا مؤثرا فيها. إنه الكائن الأعلى في هذا الملك العريض؛ والسيد الأول في هذا الميراث الواسع. ودوره في الأرض إذن وفي أحداثها وتطوراتها هو الدور الأول؛ إنه سيد الأرض وسيد الآلة! إنه ليس عبدا للآلة كما هو في العالم المادي اليوم. وليس تابعا للتطورات التي تحدثها الآلة في علاقات البشر وأوضاعهم كما يدعي أنصار المادية المطموسون، الذين يحقرون دور الإنسان ووضعه، فيجعلونه تابعا للآلة الصماء وهو السيد الكريم!
وخلاصة القول أننا يجب وضع كل شيء في مكانه الصحيح. التفكير هو الهبة الإلهية لهذا الانسان الخليفة التي استمدها من النفخة الربانية، بعد أن أعطاه المولى سبحانه حرية الاختيار، ليحدد هو المسار، ويتحمل نتيجة القرار.
أما الذكاء الاصطناعي، فهو أداة في يد هذا الإنسان، قد تكون معولًا للبناء أو فأسًا للهدم.
إن مهمتنا اليوم هي أن نسمي الأسماء بمسمياتها، فلا نطلق القدرة على التفكير للذكاء الاصطناعي لنحط من قدر الإنسان، ونعلي من شأن الآلة، ولذا فإنني أدعو إلى تغيير كلمة التفكير أو التفكير العميق في نماذج الذكاء الاصطناعي، وتعديلها إلى كلمة التحليل.
إن الآلة بذكائها الاصطناعي، مهما بلغت من "ذكاء"، ستبقى مجرد صدى، بينما الإنسان هو الصوت الأصيل الذي يهتف في هذا الكون.
وصدق المتنبي حينما قال:
ودعْ كلَّ صوتٍ غيرَ صوتي فإنني
أنا الـطـائر الغِـرِّيدُ والآخَرُ الصدى
✍صلاح الدين المحمدي
#التحول_الرقمي_المحمدي